روسيا تسخر من ماكرون: شبح نابليون يلوح في الأفق الأوروبي
في تصريح أثار الكثير من الجدل على الساحة الدبلوماسية، وجهت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، انتقادًا لاذعًا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، متهمةً إياه بتبني ما وصفته بـ”ذهنية نابليونية” في سعيه إلى لعب دور الضامن لأمن القارة الأوروبية. جاء هذا الرد بعد إعلان ماكرون، في تصريحات علنية، نيته تحمل مسؤولية السلام والأمن في أوروبا، وهو ما اعتبرته موسكو مؤشرًا على منافسة غير معلنة بينه وبين الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الذي كان قد وصف نفسه قبل ذلك بـ”زعيم أي مفاوضات”.
وقد كتبـت زاخاروفا على قناتها في تطبيق “تلغرام” تعليقًا ساخـرًا من هذه التصريحات، لتشير بسخرية إلى أن “شبح النابليونية يتجول في مكان ما هناك”، معتبرةً أن هذه الرؤية المتضخمة للدور الفرنسي في حماية أوروبا تأتي في سياق محاولة فرنسا إثبات مكانتها السياسية والعسكرية، خصوصًا مع استمرار النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا. ولم تفُت زاخاروفا الإشارة إلى التناقض الواضح في المواقف الأوروبية، حيث تذكرت تصريحات زيلينسكي الأخيرة التي وضع فيها نفسه في موضع “زعيم أي مفاوضات”، وأكد مرارًا أنه يحمي القارة الأوروبية بمواجهة موسكو.
يشير هذا التلاسن الدبلوماسي إلى جدل أوسع حول طبيعة الدور الذي تريد أوروبا، وتحديدًا فرنسا، الاضطلاع به في الملفات الأمنية الحساسة. فإيمانويل ماكرون لطالما حاول خلال السنوات الماضية الظهور بمظهر الزعيم الأوروبي الذي يمكنه إعادة توحيد القارة وبناء منظومة دفاعية أوروبية مستقلة عن النفوذ الأمريكي، وهي سياسة أثارت انتقادات في الداخل والخارج على حد سواء. وفي الوقت ذاته، يستفيد فلاديمير زيلينسكي من الدعم المالي والسياسي الواسع الذي تقدمه دول الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أنه يقف على الخطوط الأمامية في مواجهة روسيا، ما يمنحه ورقة قوية في معادلات القوة الإقليمية.
وتُعد هذه التصريحات جزءًا من حرب كلامية تدور في أروقة السياسة الأوروبية والروسية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014 وتصاعدها في فبراير 2022. فمن ناحية، تسعى كييف بزعامة زيلينسكي إلى تأكيد أنها تدافع عن أمن القارة الأوروبية بمجملها، مدعومة في ذلك بتصريحات قادة الاتحاد الأوروبي ورؤساء دوله الذين يرون في دعم كييف ضرورة لحماية حدود الاتحاد من أي تمدد روسي محتمل. ومن ناحية أخرى، تحاول موسكو إثبات أنها ليست معزولة دبلوماسيًا أو عسكريًا، وتستخدم المنصات الإعلامية والدبلوماسية لتسخيف أي محاولة غربية لتقويض نفوذها.
في هذا السياق، بدا واضحًا أن ماكرون يرى في نفسه شخصية قادرة على تحقيق اختراق في الملف الأوكراني، سواء عبر توجيه مبادرات سلام أو وضع أطر أمنية جديدة لأوروبا. لكن الانتقادات الموجهة إليه من قبل روسيا، والتي تركز على “شبح النابليونية”، تهدف بشكل أساسي إلى تسليط الضوء على الإرث التاريخي المعقد الذي تتركه فرنسا في الذاكرة الروسية، حيث شكّلت حروب نابليون تجربة مروعة ومؤثرة في تشكيل الوعي التاريخي للبلاد. ويتردد هذا الصدى التاريخي في المخيال السياسي الروسي، ليستحضر استعارة “شبح النابليونية” عند الحديث عن أي زعيم فرنسي يطمح إلى لعب دور مهيمن في أوروبا.
ولعل تصريحات ماكرون تنبع أيضًا من رغبة باريس في إعادة ضبط المقاربة الأوروبية تجاه موسكو، بحيث تظل هناك مساحة للديبلوماسية بعيدًا عن التصعيد المتواصل. ومع ذلك، تظهر هذه “المنافسة” أو “المزاحمة” مع زيلينسكي في المشهد الإعلامي والسياسي، وكأن كلًا منهما يسعى إلى نيل لقب “حامي أوروبا الأول”. فمن جهة، يصر زيلينسكي على أنه يقف حائط صد أمام التهديدات الروسية، ومن جهة أخرى، يقول ماكرون إنه يريد أن يضمن الأمن والسلام في القارة العجوز. وقد وجدت موسكو هذه الثغرة في السردية الأوروبية لتستغلها بتصريحات ساخرة، تسعى عبرها إلى إبراز تناقض المواقف الأوروبية من جهة، وإلى تحقير الدور الذي يلعبه كل من ماكرون وزيلينسكي من جهة أخرى.
ختامًا، تكشف هذه المواقف عن حالة الاستقطاب السياسي في الساحة الأوروبية حيال الصراع الروسي الأوكراني، مع رغبة بعض الدول في زيادة التصعيد والدعم العسكري لكييف، مقابل ميل دول أخرى إلى البحث عن حلول دبلوماسية قد تُنهي الأزمة. وفي قلب هذا المشهد، يحاول ماكرون تجسيد دور “رجل الدولة” الأوروبي القادر على تحقيق السلام وضمان الاستقرار، بينما يتمسك زيلينسكي بالصورة التي جعلته أيقونة للمقاومة في نظر دول الغرب. وبحسب رؤية زاخاروفا وموسكو، فإن تسابقهما على لقب “حامي أوروبا” ليس سوى دليل آخر على هيمنة منطق الحروب النفسية والتصريحات الدعائية في إدارة الأزمات، مع استحضار رمزية نابليون بوصفه شبحًا تاريخيًا يتجول من جديد في أروقة السياسة.