السعودية تسدد ديون سوريا .. خطوة استراتيجية أم إعادة تموضع إقليمي؟
في تحول لافت يعكس إعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط، أعلنت المملكة العربية السعودية وقطر سداد ديون سوريا المستحقة لدى البنك الدولي، والتي تُقدّر بـ15 مليون دولار. ورغم أن هذا الرقم يبدو زهيدًا مقارنةً بالحجم الحقيقي لاحتياجات إعادة الإعمار السورية التي تتجاوز 400 مليار دولار، فإن هذه الخطوة تعكس أهدافًا استراتيجية أبعد من مجرد الدعم المالي.
إعادة تأهيل سوريا ماليًا.. مفتاح للنفوذ
من خلال هذه المبادرة، تسعى السعودية وقطر إلى رفع الحظر المالي المفروض على دمشق منذ 14 عامًا، بما يسمح لها مجددًا بالحصول على تمويلات دولية لدعم قطاعات حيوية مثل الطاقة والتعليم والبنية التحتية. هذا التحرك يعيد سوريا إلى الخريطة المالية الدولية ويمنحها شرعية جديدة، خصوصًا في ظل غياب النفوذ الإيراني التقليدي بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي.
المصالح الجيوسياسية: كسر الهلال الشيعي
يرى المراقبون أن هذه الخطوة تُعد جزءًا من استراتيجية سعودية أوسع تهدف إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة. فمع تراجع حضور طهران في دمشق وبيروت، تسعى الرياض إلى استعادة دورها التاريخي في المشرق العربي، خصوصًا في المناطق الحيوية المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
ووفق تصريحات كريم صادر، المستشار والخبير السياسي في شؤون الخليج، فإن السعودية تراهن على دعم الدولة المركزية في سوريا لتفادي مشاريع التقسيم الكردي والعلوي، ولتحقيق النفوذ الإقليمي المطلوب، لا سيما في ظل التنافس الحاد مع تركيا على ملفات إعادة الإعمار.
التعاون مع قطر: تقاطع مصالح رغم التباين
اللافت في هذه الخطوة هو التنسيق المباشر بين الرياض والدوحة، بعد سنوات من التوتر السياسي بين البلدين. لكن هذه المصالحة تعكس مصالح اقتصادية واستراتيجية مشتركة في سوريا، مثل مشروع خط الغاز القطري المتوقف منذ عام 2000، والذي من شأنه أن يمر عبر السعودية وسوريا نحو أوروبا.
من الجانب القطري، يشكّل هذا التعاون وسيلة لتقليل الاعتماد على تركيا ولضمان موقع في مشاريع إعادة الإعمار، مع الحذر من أي ضغوط مستقبلية قد تأتي من إدارة أمريكية جديدة بقيادة دونالد ترامب.
فرصة اقتصادية واستثمار سياسي
بالنسبة للرياض، فإن سداد جزء من الديون يُعتبر بمثابة “دفعة مقدمة” لحجز موقع استثماري متميز في السوق السورية الواعدة، خصوصًا في ظل الدمار الواسع الذي طال المدن والبنى التحتية. وتبدو السعودية مصممة على تجنّب أخطاء الماضي، حيث كانت مساعداتها المالية تصب في جيوب حلفاء إيران كـ”حزب الله” في لبنان.
اليوم، تقدم المملكة نفسها كفاعل تنموي قادر على التمويل وتوجيه القرار السياسي في الدول التي تمر بمرحلة إعادة الإعمار، كما هو الحال في لبنان وسوريا، وربما لاحقًا في غزة.
تفاهمات ثلاثية: واشنطن، الخليج، وإسرائيل
التحرك السعودي-القطري لا يمكن فصله عن السياق الدولي. فوفق الرؤية التي طرحتها تقارير عديدة، هناك تفاهم غير معلن بين الولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل، يتمثل في تقاسم الأدوار: إسرائيل تحيد النفوذ الإيراني عسكريًا، والخليج يعيد بناء النفوذ الاقتصادي والسياسي، والهدف النهائي تطبيع سعودي-إسرائيلي.
بدايه جديده في الشرق
سداد السعودية وقطر للديون السورية ليس فقط دعمًا ماليًا، بل هو مؤشر على عصر جديد يتشكل في الشرق الأوسط، حيث تتراجع أدوار وتحالفات قديمة، وتبرز قوى جديدة بقدرات مالية واستراتيجية تعيد رسم خرائط النفوذ.