"حزب الله" بين مصارحة عسكرية ومراجعة سياسية... "إنّا على العهد"! - الخليج الان

شكرًا لمتابعتكم، سنوافيكم بالمزيد من التفاصيل والتحديثات الاقتصادية في المقال القادم: "حزب الله" بين مصارحة عسكرية ومراجعة سياسية... "إنّا على العهد"! - الخليج الان ليوم الثلاثاء 4 فبراير 2025 05:30 صباحاً

مع انتهاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، حرص "حزب الله" على الخروج بسرديّة "انتصار"، أراد من خلالها القول إنّه خرج من المعركة "أقوى ممّا كان" خلافًا لكلّ ما يتمّ الترويج له، وإنّه بموجب ذلك، تجاوز كلّ الخسائر التي مُني بها والاهتزازات التي تعرّض لها، بما في ذلك اغتيال أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، و"خليفته" السيد هاشم صفي الدين، الذي تبيّن أنّه خلفه فعلاً في المنصب، قبل أن يلقى المصير نفسه.

لكن، بعيدًا عن السرديّة التي اعتمدها الحزب، لا يبدو صعبًا الاستنتاج بأنّ تغييرات جوهرية طرأت على أدائه وهيكليّته بعد الحرب، على المستويين العسكري والسياسي، وهو ما تجلّى في العديد من الاستحقاقات، بدءًا من اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أثار جدلاً واسعًا في أوساط الحزب قبل غيره، عزّزه الركون إلى الدولة في مواجهة الخروقات الإسرائيلية المتمادية له، وصولاً إلى التعامل مع الاستحقاقات السياسية، من الرئاسة إلى الحكومة.

صحيح أنّ هذه التغييرات بقيت خارج "الخطاب الرسمي" للحزب إلى حدّ بعيد، إلا أنّ تغييرًا بدأ يُرصَد حتى على هذا الخط، وعبّر عنه خير تعبير الخطابان الأخيران لأمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، من خلال "المصارحة" التي توجّه بها إلى من وصفهم بـ"جمهور المقاومة"، والتي تضمّنت كلامًا بدا غير مألوف في أدبيّات الحزب، خصوصًا لناحية الإقرار بـ"الغلبة العسكرية للعدو"، والحديث عن "الثغرات" التي استغلّتها إسرائيل بصورة أو بأخرى.

وتطوّرت هذه "المصارحة" إلى ما يشبه "المراجعة" في الخطاب الأخير، الذي أكمل فيه الشيخ قاسم ما كان قد بدأه، مصوّبًا البوصلة سياسيًا أيضًا، باستنكاره مشهديّة "مسيرة الدراجات النارية" الشهيرة، التي استفزّ المحسوبون على "حزب الله" الكثيرين بالدفاع عنها على امتداد الأسبوع الأخير، فهل يمكن القول إنّ الحرب الأخيرة غيّرت "حزب الله" عمليًا؟.

لا شكّ بدايةً أنّ تغييرات "ملموسة" طرأت على أداء "حزب الله" في الآونة الأخيرة، ولو بوتيرة تدريجية، وفق ما يقول العارفون، الذين يعتبرون أنّ خطاب الحزب بدأ يتّسم بالمزيد من الواقعية والبراغماتية، وهو ما جسّده كلام الشيخ نعيم قاسم الأخير، الذي تحدّث فيه عن "نصر غير مطلق"، وهو ما بدا أكثر إقناعًا لشريحة واسعة من جمهور المقاومة قبل غيره، من خطاب "النصر الإلهي الذي يفوق نصر حرب تموز 2006" مثلاً.

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ "نوعية" الخطاب تغيّرت، بين الإطلالة الأولى للشيخ قاسم بعد الحرب الإسرائيلية وإطلالته الأخيرة، فحتى لو صحّ أنّ حديثه عن "نصر يفوق نصر حرب تموز" في خطابه الأول، قد لا يتناقض بالضرورة مع قوله إنّ "النصر لم يكن مطلقًا" في خطابه الأخير، إلا أنّ الفوارق أكثر من جليّة، خصوصًا أنّ الحزب حقّق أهدافه المُعلَنة في حرب تموز، فكيف يكون "نصر غير مطلق" أهمّ من نصر شبه مُطلَق، أقلّه وفق مفهوم الحزب نفسه.

في السياق نفسه، ثمّة من يشير إلى أنّ أهمية التغيير في الكلام، تكمن في أنه أضحى أكثر واقعية، وربما أكثر براغماتية، فعلى مدى نحو أربعة خطابات، كرّر قاسم الحديث عن "النصر"، كمن يريد "فرض" هذا المفهوم على الآخرين، ليعتمد في النهاية خطابًا أقلّ حدّة، لكن أكثر إقناعًا، بالتزامن مع "مصارحة" يقول البعض إنّها مثيرة للانتباه، ولو بدت متأخّرة، خصوصًا أنّ الحزب أدلى من خلالها بما لم يُدلِ به سابقًا، حتى في أقسى مراحل الحرب وظروفها.

وقد يكون حديث الشيخ نعيم قاسم بلغة "الإدانة والاستنكار"، عن مسيرات الدراجات النارية التي جابت مناطق لبنانية عدّة، من دون اعتبار لخصوصيّتها، أكثر من معبّر في سياق "المراجعة" التي يقوم بها، خصوصًا أنّ هذا الحديث جاء بعدما "تسرّع" الكثير من المحسوبين على الحزب بالدفاع عن هذه المسيرات، التي تبيّن أنّها لم تخدم الحزب بشيء، بل على العكس من ذلك، أضرّت به وبصورته، فضلاً عن كونها شوّهت في توقيتها "مشهد" التحرير.

وإذا كان التغيير في الخطاب الرسمي لـ"حزب الله"، بمعزل عن حجمه، يتزامن مع بدء التحضيرات لتشييع السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، والذي يريده الحزب مهيبًا وغير مسبوق، فإنّ الشعار الذي اختاره للمناسبة، "إنّا على العهد"، يختزل وفق العارفين الرسالة التي يريد إيصالها، وهي أنّ كلّ ما تقدّم لا يتناقض مع التمسّك بالثوابت والمبادئ، التي أرساها الأمين العام السابق، والتي لن يحيد عنها الحزب، ولو غيّر في الأسلوب والتكتيك.

بهذا المعنى، يقول "حزب الله" للقاصي والداني إنّه يرفض أن تُفهَم سياسته الانفتاحية على أنها دليل ضعف أو تراجع، كما يوحي بعض خصوم المقاومة أساسًا منذ انتهاء الحرب، ممّن يدعون إلى التعامل مع "الحزب" وكأنّه أصبح "الحلقة الأضعف" في معادلات الداخل والخارج، وبينهم من وصل به الأمر لحدّ الدعوة إلى "إقصاء" الحزب، متجاهلاً حقيقة أنّه لا يزال يمتلك حيثيّة واسعة، وثقلاً شعبيًا لا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه.

ولعلّ شعار "إنّا على العهد" الذي اختاره الحزب لتشييع أمينيه العامين السابقين، إن صحّ التعبير، ينطوي على هذه الرسائل، فالحزب وإن تغيّر في الشكل، وربما أيضًا في المضمون، سيبقى وفيًا لتاريخه، ولتضحيات قادته، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله، الذي كان له الدور الأكبر في رسم "صورة" الحزب، وبلورة سياساته، وهو بذلك يوجّه رسالة مفادها، أنّ الرهان على "ضعف" الحزب سيخيب، كما خابت رهانات القضاء عليه عسكريًا.

ويشدّد العارفون على أنّ "حزب الله" يسعى ليكرّس من خلال مشهديّة التشييع، التي سيعمل على أن تكون "تاريخية واستثنائية"، وربما "عالمية المفاهيم"، صورته كحزبٍ قادر على المحافظة على قوته وصلابته، رغم كلّ المعوّقات والصعوبات، وأن "يوازن" بين هذه الصورة، والصورة التي ترتّبت على الحرب وظروف ما بعدها، التي تطلّبت من الحزب "إعادة تموضع داخلي" إن صحّ التعبير، لكن تحت عنوان "الشراكة" في الدرجة الأولى.

في النتيجة، يمكن القول إنّ "حزب الله" لا يزال في مرحلة "استيعاب الدروس والعِبَر"، فما جرى معه في الحرب الأخيرة، أكبر من قدرة أيّ تنظيم على تحمّله في الظروف العادية، وهو بالطبع أكبر من مصارحة عسكرية طارئة، أو مراجعة سياسية مستجدّة، ولو أنّ "الثابت الوحيد" يبقى أنّ الحزب باقٍ على "العهد" الذي أرساه قادته، وكرّسه الميدان، مهما اختلفت الوسائل والأدوات والتكتيكات...